التاريخ البحري

التاريخ البحري

مقدمة:
إذا كانت الدراسات التاريخية الأوربية قد قطعت مراحل مهمة فيما يخص تاريخ الملاحة البحرية واستعملت احدث ثقنيات التنقيب والبحث.فتراكم لها ارشيف ملاحي وسجلات جمركية ومستندات وبيانات مرتبطة بالمراسي في حين نجد أن الاستوغرافيا العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة لم تهتم بأمور البحر ، وهذا التقصير الشديد والاهتمام المحدود على مستوى البحث والدراسة يعود إلى خاصية الموضوع وطابعه الثقني من جهة ، ولضالة ارتباطه المباشر بالأحداث المركزية السياسية والاجتماعية للحواضر الكبرى من جهة ثانية، وقد انعكس إعراض المصادر التاريخية عن الاهتمام بهذا المجال على الدارسين والباحثين ، ومن ثم ظل هذا الموضوع يحظى بموقع ثانوي في الأبحاث التاريخية بحكم ادراج المجال البحري ضمن المناطق الهامشية ذات التأثير الضعيف في صياغة الوقائع التاريخية العامة، كما يقول الباحث حسن اميلي في كتابه "المغاربة والمجال البحري في القرنين 17و18"(ص9).
فالكتابات التاريخية العربية اعتمدت مصادر وصفية غير دقيقة مما جعل الباحث في المجال البحري يجد صعوبة في تبني خلاصات وأحكام، ونتيجة هذا التهميش فتح المجال للكتابات الأوربية لتملأ الفراغ خاصة منها الفرنسية فأنجزت أبحاث ركزت فيها على الجانب المتعلق بالجهاد البحري في علاقته بالعالم المسيحي ما بين القرنين 15 و 19، أي من فتح القسطنطينية الى احتلال الجزائر سنة 1830م. 
والملاحظ أن هذه الأبحاث لا تخلو من مواقف مسبقة ف Louis brunot في كتابه notes lexicographiques sur le vocabulaire maritime de rabat et sale (ص3) أرجع أصول المصطلحات البحرية في مدينتي الرباط و سلا الى اللغة الاسبانية لان اللغة العربية تفتقر الى المصطلحات الثقنية المظبوطة والسبب يرجع الى عدم اهتمام المغاربة بالبحر وخوفهم المفرط منه (ويعود فزع الانسان المغربي من البحر الى جهله لأبسط المعطيات النفسية والطبيعية المتعلقة بشؤونه بالاضافة الى الاوهام والوساوس والخرافات والاساطير التي تهيمن عليه وتحدد علاقته بالبحر).
كما أن روجي كواندور له نفس الموقف اذ يقول أن (الخوف من البحر ظاهرة عامة عند المسلمين، ويبقى هذا الرعب أشد حدة عند المغاربة مقارنة مع غيرهم من أهالي شمال افريقيا)- قراصنة سلا ص 53 - وقد اعتمد كواندور في حكمه هذا على مراسلة للمولى اسماعيل يقول فيها بأن الله وهب البر للمسلمين وترك البحر لأهل الوثنية، لأن العرب تحسن ركوب الخيل والإبل لا السفن في البحر.
وعدم الاهتمام بالتاريخ البحري يخلق مفارقة عجيبة لأن المغرب له مؤهلات بحرية فهو يطل على واجهتين بحريتين شمالية متوسطية وغربية اطلسية. فهذا الموقع الجغرافي والاستراتيجي جعله يتواصل مع حضارات مختلفة مند أقدم العصور فينيقية، قرطاجية ووندالية وبيزنطية وإسلامية وبرتغالية واسبانية وفرنسية... فمرافئه ومراسيه وموانئه شكلت جسرا للتواصل السياسي والاقتصادي والثقني والثقافي، كما جعلته يلعب أدوارا تاريخية هامة تفاعل مع أحداثها، إضافة إلى أنه صلة وصل بين إفريقيا وأوربا.
سنحاول خلال هذا الدرس أن نجيب ونناقش مجموعة من الإشكاليات من أهمها :
- ما هي علاقة المغاربة بالمجال البحري ؟
- ما هي تصورات وتمثلات الذهنية المغربية للبحر ؟
- ما مدى تأثير التطورات التي عرفتها أوربا بعد الكشوفات الجغرافية على علاقة المغاربة بالبحر؟
- ما هو دور المغرب في العمليات الجهادية ؟
- ما هو موقف الدراسات الحديثة من إشكالية الجهاد القرصنة؟
- ما مدى نجاح تبني سياسة الانفتاح على البحر من طرف بعض السلاطين؟
المحور الأول: علاقة المغاربة بالبحر
عُرف المغرب بأهمية موقعه وشكل مركزا حيويا خاصة بعد اكتشاف الطريق البحري الأطلسي ، وانتقال الثقل التجاري إليه. لكن رغم هذه المؤهلات فالمغرب لم يكن لديه حضور بحري بارز، والسبب يعود إلى وعورة تضاريسه الساحلية التي خلقت لدى المغاربة خوفا مهولا وعرقلة أمام ركوب البحر.
فطبيعة السواحل المغربية كانت تقدم إمكانيات محدودة لإنشاء مرافئ ومراسي إضافة لوقوعها في مهب الرياح الشرقية والغربية. فهذه الظروف كانت من أهم الأسباب التي أبعدت المغربي عن المغامرة في مجال الملاحة وجعلته لا يبادر إلى تطوير المراسي ويجعلها دائمة فكل ما يتوفر عليه الساحل المتوسطي هو مرافئ أو مراسي طبيعية مثل مليلية و بادس و سبتة والقصر الصغير، أما على الساحل الأطلسي فنجد طنجة والعرائش والمعمورة وسلا وأنفا وازمور وأسفي واكادير... .
ورغم هذه الصعوبات عرفت الملاحة البحرية خاصة العسكرية انتعاشا في العهد المرابطي ، وزادت تطورا في العهد الموحدي اذ تمكن المغاربة بواسطة أسطولهم من الجواز إلى الضفة الأخرى أي الأندلس .
ان تاثير التغيرات المناخية على الملاحة وانتقال الزعامة الاقتصادية والسياسية من البحر المتوسط الى المحيط الاطلسي واحتلال مجموعة من الثغور المغربية من طرف الاسبان والبرتغال وضعف السلطة المركزية مع نهاية المرينيين والوطاسيين كل هذا ادى الى ركود وانكماش المراسي التي ستعرف أيضا تراجعا مع نهاية السعديين وبداية العلويين ومقابل ذالك نشطت حركة الجهاد كرد فعل تجاه الغازي.
ومع المولى اسماعيل عرفت حركة الجهاد تغييرا في توجهها اذ اتخذها هذا السلطان كوسيلة للضغط على الدول الاوربية للحصول على الاسلحة ولتنمية مداخيل الدولة. كما سعى محمد بن عبد الله الى تطوير الاسطول المغربي وجعله في مستوى الاساطيل الاوربية والاهتمام بالجهاد البحري وانشاء مراسي جديدة.
 تصورات وتمثلات ذهنية المغاربة للبحر
منذ وجود الانسان على وجه الارض ومواقفه تجاه البحر غامضة ،فهناك الرهبة والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبأ بما يخبأه واستحالة السيطرة على قواه المدمرة. ومن ناحية أخرى هناك التحدي والمغامرة والابداع والخيال، والبحر كعنصر لا غنى عنه في الحياة كمصدر للغذاء والطاقة وجسر بين اناس وثقافات متباعدة حسب "اليشا ليندر" في كتاب "رهبة البحر لدى البشر " عالم المعرفة، البحر والتاريخ (سنة 2005 ص 33)."لقد كانت للأوربيين مواقف طبعتها الرهبة والخوف من البحر لكنهم حاولوا التغلب على ذلك عندما ادركوا ان البحر هو القلب النابض للعالم وانه اهم مجال للحرب والسلم والمبادلات وأنه رافعة أساسية للنمو خاصة بعد الكشوفات الجغرافية، لذلك عملوا على تطوير الصناعات والثقنيات المرتبطة بالملاحة البحرية، فهي الوسيلة الوحيدة التي ستمكنه من السيطرة على التجارة العالمية والتخلي عن وساطة المغرب والشرق وتكوين إمبراطوريات.
وقد كان للدولة الاوربية دور كبير في تطور الملاحة عن طريق دعمها وتشجيعها فوقع تحالف بين الملكية والطبقة البرجوازية مثل ما وقع في فرنسا واسبانيا، اما انجلترا فانها فضلت عدم التدخل في الصناعة المحلية وتركت الباب مفتوح للخواص.
اما بالنسبة للمغاربة فان البحر ظل مجالا مجهولا لا يثير الرهبة والعجز خاصة المحيط الاطلسي الذي لقبوه ببحر الظلمات والبحر المظلم واعتبروا الابحار فيه مغامرة. اضافة الى جهلهم للبحر هناك صعوبة الرياح، وكل هذا كان له تأثير على تصورات وتمثلات المغاربة للبحر، كما كان له تأثير على نفسيتهم.
ان حضور البحر في التراث الاسلامي حظي بمكانة متميزة في المنظومة القرانية كما تشير الى ذلك الباحثة "مهدية امنوح" في مقالها "البحر في التصور الاسلامي"(مجلة البحث العلمي عدد 46 الرباط 1999). فدلالة البحر جاءت في سياق الكثير من الايات القرانية التي بلغ عددها 48، توزعت ضمنها مواضيع البحر بين المعجزة والتسخير والانذار والعلم الالهي والعظمة والقوة والسلامة والنجاة.

تعليقات